هناك إشكالية كبرى تتعلق بالمرأة في مجتمعنا، فأخطاؤها مس بشرف المجتمع أو كما يتصور المجتمع ذلك، وخياراتها لابد أن تجاز أو يوافق عليها من خلال أوليائها، وقدرتها على تحمل نتائج الهوية المستقلة من سفر وتعاقدات وسكن وعمل وقيادة للسيارة وتعرض للمخاطر المهنية والاجتماعية المختلفة وتقرير المصير كل ذلك يرتبط ببعد آخر هو البعد البيولوجي للمرأة الذي تعززه الثقافة المغروسة في المرأة والنابعة أصلا من وجدان الرجل.
وبقدر ما تمثل المرأة عنصرا ثمينا بالنسبة للرجل إلا أنها تمثل بالنسبة له عنصر تهديد شديد وفق معطيات الثقافة المحلية. فالرجل يعاب بحرية امرأته، ويتعرض للنقد والتهكم بسلوكها، ويمتهن بزواجها ممن لا يوافقها مكانة وعلما واقتصادا وانتماء، وله عليها فوق ولاية الشرع المقننة ولاية اجتماعية مطلقة تبيح له انتهاك حريتها الفكرية والجسدية وتهديد سلامتها في جسدها وحياتها ومالها، وتتضافر جهود المؤسسات الرسمية كالشرط والهيئات ومؤسسات الهوية الوطنية كالجوازات والجنسية والعمل وعناصر السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في تقنين مسلمات المجتمع وفق الأطر الثقافية التي حصر المرأة فيها ثم طالبها بأن تحب هذه القيود وأن تطالب باستمرارها. وجعل محاولة تخلصها منها دلالة تمردها وخروجها على قواعد الشرع والمجتمع.
ورغم التغير الهامشي في وضع المرأة خلال خمسين سنة مضت من كائن مجهول الشكل والإسم والهوية، محروم من التعليم واتخاذ القرارات، حيث تحول خلال الخمسة عقود الماضية إلى كائن يساهم في البناء التربوي والوظائف التعليمية ( معلمة ومتعلمة )، واستتبع ذلك أو رافقه شروط الهوية وظهور أسماء الناجحات في المدارس والجامعات والوظائف، وبقي الحال على ما هو عليه تكنى المرأة بإبنها الأكبر، وتعتزي بأبيها، وتقاد ولايتها إلى أقرب ذكر إليها ولو كان حفيدها.
وإن استمرأت المرأة هذا الدور الهامشي وطورت ثقافتها الخاصة التي تعايشت من خلالها في عالم من الأوهام والأحلام، متدينة بإسلوب الدروشة، تجمع بين النقيضين ولا تشعر بالتناقض، تتمتع بحب الرجل وتتلذذ بمهاجمته في عالم النساء، تفتقد أبسط الحقوق في تسمية ابنها أو ابنتها وحتى في اختيار ملبسها وإسلوب قضاء وقت فراغها رغم أنها تعيش في فراغ هائل إلا أن هذا الفراغ يتم إشغاله بمسؤوليات متباينة، منها رعاية البيت والزوج والأحماء والأحفاد وزيارة الأقارب في الأفراح والأتراح والبحث عن أدوات المطبخ ومجملات الجسد، وكل ذلك لا يتم إلا بموافقة الرجل ووفق مزاجيته سواء كان هذا الرجل أبا أو أخا أو زوجا أو قريبا. فهي ( أي المرأة ) تهيم في عالم لم تستطع منه فكاكا حتى وإن بلغت أعلى الدرجات العلمية أو الفئات العمرية لأن هيمنة هذه الثقافة عبارة عن غرس أجيال عديدة وسنين طويلة لا يمكن إزالته بإدخال عنصر التعليم في جيل واحد، مما يجعل العنصر التعليمي غريب عن المكون الثقافي يفعل فعله الظاهر في السلوك الخارجي ولكنه يتلاشى عند ممارسة الحياة الطبيعية. فلا عجب أن تجد امرأة بدرجة أستاذ دكتور في تخصص أكاديمي معقد تتصل على والدتها تلفونيا تسأل عن أفضل وسائل لم البطن بعد الولادة وأفضل الأعشاب لاستعادة القوام بعد الانجاب، فنجد في خزائن المنزل أدوية من الصبر والمر والأعشاب المختلفة تتناولها دون قيد سوى قيد الثقافة التقليدية، وعندما تتحدث للمجتمع تتحدث عن تحقيق الذات والمشاركة في التنمية دون أن تشعر بالتناقض في هذا الخصوص لأن عنصر الثقافة التقليدية يحكمها في إطار الأسرة، وعنصر الثقافة المعرفية يؤطرها في إطار المجتمع. وقد اعتادت أن تفقد هويتها ضمن السياق الثقافي والاجتماعي ولا تشعر بالحرج من التناقض، بل تجد أن الإحتيال أولى من المواجهة، والمداراة عين العقل.
وإن برزت نماذج شاذة هنا أو هناك تمردت على نمط الحجاب أو دعت إلى رفض هيمنة الرجل فإنها غالبا ترتبط برجل ما وتتعامل مع موقف لا قضية. فدعاة المرأة لتحرير ذاتها ( من بين النساء أنفسهن ) إنما يترسمن خطوط بعض نبلاء الرجال الذين آلمهم وضع المرأة المزري بين عسف الجاهلين وتعسف المتعلمين وسادية المرأة على المرأة، حيث تمثل المرأة دائما في اتجاهاتها امتدادا ثقافيا لهيمنة محيط الرجل بها فأصبحت سلعة في الطبقات الدنيا من حيث التعليم والعمل ويتصارع التقليديون والتحديثيون على مصيرها وعلى مالها واحتكار التمتع بها، مستغلين في ذلك شوقها للزواج وحبها للأمومة، فأخذت المرأة تتحدث عن المرأة بلسان الرجل وتبحث عن تحقيق حاجات المرأة كما يتمناها الرجل وتحدد مواصفات المرأة كما تروق في عيني الرجل فتصارعت النساء على تبييض البشرة وتلوين الشعر والتفاف القوام وشكل الأسنان والعيون مندمجة في الدور الذي رسمه لها الرجل.
هذا في الطبقات الدنيا، أما في الطبقات الأعلى فقد حاولت المرأة إثبات وجودها عن طريق تشبهها بالرجل من خلال الصوت والحركة واللبس والتدخين والهوايات المختلفة مما يتسم بالطابع الذكوري وفق القيم الاجتماعية. وفي كل الأطر الدنيا والعليا لم تستطع المرأة أن تبحث عما تريده المرأة ذاتها لأنها تجد نفسها في محيطها ولا تملك قدرة تقرير مصيرها بنفسها وتحمل نتائج اتخاذ القرار لديها، وإن برزت أصوات بين آن وآخر تشير إلى أن هم المرأة ينحصر في فقدان هويتها غير أنه سرعان ما تختنق تلك الأصوات إما بالردع الشرعي أو الترهيب الاجتماعي لتندمج المرأة مرة أخرى في الدور الخاص بها كما يراه المجتمع لا كما ترغبه هي.
وإذا انطلقنا من مسلمة أساسية في الكينونة البشرية فإننا نجد أن الرجل والمرأة حملا روحا واحدة اشتقت كما في الدين الاسلامي الحنيف من نفحة واحدة، فالروح لا جنس لها، فلا يقال روح ذكر وروح أنثى، ولكن بمجرد تلبسها في الجسد تبدأ التمايزات فيها انطلاقا من تسميتها حتى اشهار اسمها والتبشير بها والبشرى بقدومها ثم أساليب التنشئة الاجتماعية المختلفة التي تكرس مفهوم الذكورة والأنوثة وفق اسلوبين تربويين متمايزين هما: أن دور الأنوثة يخضع لمفهوم أن كل شيء في عالم الأنثى محظور إلا ما ورد نص اجتماعي بإباحته، بينما في عالم الرجولة كل شيء مباح إلا ما ورد نص اجتماعي بتحريمه. والتحريم في حق المرأة تجريم بينما التحريم في حق الرجل تقييد. والإباحة في حق المرأة إجازة مع الكراهة بينما الإباحة في حق الرجل إجازة واستحباب. ورفع الصوت مثال بسيط على هذا، فللرجل أن يصرخ ويستحب له خشونة الصوت وعلوه بينما المرأة ليس لها الاعتراض ويكره لها بروز الصوت أو علوه.
ووفق محددات كهذه تتعلق باللباس والتمتع وحب الجمال والضحك والتسلية والتعبير عن المشاعر بالكلمات تبقى فضيلة للرجل بينما هي رذيلة للأنثى، وعلى المرأة أن تكتفي بالأحاسيس وهي ما كان داخل الجسد، وللرجل إطلاق المشاعر المعبر عنها قولا أو فعلا دون حسبان.
من هنا نستشف أزمة الهوية للمرأة، فمن يقيدها؟ وبأي حق يقيدها؟ ولماذا خطؤها يطال غيرها بينما خطأ غيرها لا يطالها؟ لماذا يقول رجل لإمرأة أن حكم وجهك كحكم فخذي فكلاهما عورة؟ إنه يستند إلى نص شرعي ولكنه يوظفه بصورة طبقية يقصد منه أن يجعل الحلال والحرام كأنما هو تفضيل ذكوري ضد أنثوي، بينما واقع الحال يقتضي أن مقتضى العبادة والحساب يستلزم منه حرية الاختيار ومسؤولية القرار وهما فيه سواء.
إن أزمة المرأة تنبع أساسا من خلط الديني بالاجتماعي وتوظيف الدين لقمع المرأة. وقد دلت معظم البحوث الاجتماعية على أن مستوى الاغتراب لدى المرأة السعودية يفوق ثلاثة أمثال درجته لدى الرجل، وهي نسبة عالية جدا قياسا فيما لدى المجتمعات الشرقية والغربية، حيث لا تزيد النسبة عن 10% إلى 15% لدى النساء زيادة عن الرجال في مقاييس الاغتراب، وذلك نابع من كون الأنظمة الاجتماعية صياغة ذكورية تشعر المرأة بالاغتراب عنها والعجز حيالها والإنسحاب أمامها فلا تجد المرأة مناصا من المطالبة بالتعديل والتطوير في عالم الغرب حتى اقتربت نسبة التكيف داخل المجتمع بين الذكور والإناث إلى نسب متقاربة جدا لأن المرأة وجدت نفسها من خلال الدعم الرسمي والمؤسساتي والفردي لواقعها ووجودها بينما لا تزال مجتمعات كثيرة تحاول المرأة فيها الخروج من تهمة العار أو أن تصنف بأنها نحس وشر يجب التخلص منه والقضاء عليه.
إن الأداء البيولوجي للمرأة كالعادة الشهرية والتبويض قد تم اتخاذه مصادر امتهان وتنقص من مقام المرأة، وأصبحت الأنوثة يعاب بها الرجل بينما الذكورة – وإن رفضت شكلا – فهي مقبولة من المرأة سلوكا وشخصية باعتبار أن الأنوثة مدعاة للعار والخشونة مرادفة للشرف والنقاء. فهوية المرأة جرح قائم لا يحميه سوى ضمير المجتمع ودرجة الانسانية فيه، وما لم تقم المؤسسات الاجتماعية بحماية الهوية النسائية وإكراه من يرفضها على الاعتراف بها وفرض العقلانية على التفسيرات الدينية التي تحاول أن تساوي بين المرأة والكلب الأسود والحمار، وهي من النصوص التراثية التي لم تثبت شرعا ولكن رفعت لوائها القيم الاجتماعية وعجزت المرأة عن استنكارها، فضلا عن انكارها أو مقاومتها، لأنها حينئذ ستوصم بقلة الحياء، وهي أدنى درجات التكدير الاجتماعي الموجبة للطرد والعنوسة والطلاق أو حتى القتل في أقصى الحالات وأقساها.
إن الكثيرين يقولون أن المرأة كائن بغيره لا كائنا بذاته، وذلك صحيح في مجتمعنا، وهو أول نداءات المرأة لإنصافها أن تكون كائنا بذاتها متساو مع غيرها، ولكن بين الواقع والتطبيق لهذا الطموح تقف عشرات الخطوات في برامج التنمية الاجتماعية والتربية الأسرية والمناهج المدرسية والتوعية الاعلامية والقرارات النظامية والخطوات التشريعية الجريئة حتى تجتاز المرأة خيال الكينونة بغيرها إلى واقع الوجود بذاتها، وهو طموح مازال بعيد المنال للأسف ... هذا وللجميع أطيب تحياتي.
الدكتور/ عبد الله محمد الفوزان
جامعة الملك سعود-كلية الآداب-قسم علم الاجتماع-ص.ب 2456