مخدرات و "مليون طفل" على أرصفة السبيل
قوافل المتخلفين تمحو تاريخ البازان-
جولة: ابراهيم عقيلي
قبل سبعة عقود انشأ الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- سبيلاً خارج محيط سور جدة قصد منه إعانة الناس ومساعدتهم.. وتمدد السبيل وصار حياً كبيراً مزدحماً بكافة الأجناس وألوان الطيف الاجتماعي ومقراً للقنصليات.. ومع الاتساع الطبيعي ضاعت هوية الحي الشهير، وامتزجت ثقافة العشوائية بعادات وسلوك الأغراب القادمين من وراء البحار. قدماء السبيل ومنهم العم عبدالله عبيد يعود بذاكرته إلى الوراء ويتحدث بأسى عن نمط الحياة بين الأمس واليوم، كان الحي مقر سكن أعيان ووجهاء جدة وكبار العائلات بن شيهون، بحلس، بن معمر، وغيرهم.. وتغيرت الأحوال بعد أقل من سبعة عقود، وتبدلت جغرافية الحي حيث أصبح عنواناً للعشوائية والتوسع الرأسي غير المنضبط.. وملاذاً للمتسيبين والمنحرفين من أرباب السوابق والمدمنين، وأضطر السكان الأصليين للرحيل.
التاريخ يقاوم عوامل الجغرافيا
شواهد التاريخ مازالت تقاوم هجمة العشوائيات، هذا قصر العمدة النحاس وهو من كبار تجار الحي.. وتلك بقايا "بازان".. التي فشلت في مقاومة التغريب وصارت الآن ملعباً للكرة ومجلساً للشباب.
كانت "بازان" محل سقيا السبيل تنطلق منها قوافل الدواب محملة بالمياه إلى السكان والآن يتخذ الأغراب من البازان منطلقاً لعصاباتهم الخطرة. حي السبيل يتنازعه عاملان، عبق التاريخ وقوافل التخلف والاجرام والعشوائية، فالشوارع الضيقة مازالت هي السمة "المميزة" حيث تعقد فيها الصفقات المريبة، وتنطلق من أزقتها جرائم المنحرفين ومعتادي الاجرام.. ويجد هؤلاء في العشوائية المفرطة وعدم التخطيط عاملاً مساعداً يعينهم على خططهم وصفقاتهم السرية التي تشكل المخدرات أخطر وأبرز ملامحها.
المواطنون.. أقلية!
طبقاً للاحصائيات الرسمية الصادرة من أمانة جدة فإن 90% من سكان السبيل من اليمنيين والصوماليين والأقلية من المواطنين ممن اضطرتهم الظروف الى البقاء في مكان أحبوه ويرغبون في مغادرته متى ما تبدلت الظروف.. ولعل ما يحفز هؤلاء على البقاء في بيئة عشوائية مثل السبيل انهم ورثوا بيوتهم عن أجدادهم ولا حيلة لهم في المغادرة.. والمغامرة بدفع مبالغ كبيرة مقابل الإيجار في أحياء التخطيط والعمران.
استضافة الأغراب
يلخص واقع السبيل المواطن محمد حسن في كلمات قصيرة إذ يقول تمدد العشوائيات وفوضى التخطيط أسهم بصورة مباشرة في تنامي ظواهر إجرامية غريبة لم تكن موجودة في السابق عندما كان المواطنون يشكلون أغلبية قبل عشرين عاماً، وبسبب هجمة التغريب حدثت تغيرات ديموغرافية واضحة واختلط الحابل بالنابل وظهرت أنماط عجيبة من الجرائم.
وفي رأي محمد حسن ان بيئة الحي ومنازله القديمة المتصدعة هي التي شجعت الأغراب والمتخلفين للزحف سيما وأن أغلبية المواطنين يرفضون السكن في منازل يمكن ان تسقط على رؤوسهم في أية لحظة.. ولا يخفي المواطن عتبه لبعض أصحاب المنازل الذين يوفرون الملاذ الآمن للمتخلفين والأغراب مقابل ثمن بخس.
بيئة حي السبيل الخصبة شجعت المنحرفين وأرباب السوابق على تركيز أنشطتهم بين أزقته الضيقة التي لا تسع جهات الرقابة والمتابعة والضبط والملاحقة. ولعل أوضح صورة لتردي الأوضاع في حي السبيل ما يتحدث عنه السكان عن انتشار باعة السموم والمتعاطين وممارستهم سلوكهم الإجرامي في وضح النهار بلا حسيب أو رقيب.
التوغل إلى القاع
وتصديقاً لإفادات محمد حسن رصدت "عكاظ" بالعدسة والقلم مظاهر الانفلات في حي السبيل، بعد أن نجحت في التوغل إلى القاع.. واكتفى السكان بالإشارة إلى أوجه الخلل ومواقع الجريمة معتذرين عن مرافقة "عكاظ" لأسباب احتفظوا بها لأنفسهم وقدرتها الصحيفة.. يتحدث سكان الحي عما يطلق عليه البعض "الحفرة" و "الباطنية".. وفي الاسمين اشارة واضحة لطبيعتهما.. وفي طرف ثالث تقع حارة "العراق" الشهيرة ببيع الخمور.
حوار مع سمسار
من الأسماء اللافتة في الحي.. "حارة المليون طفل" إذ يتجاسر أطفال في مقتبل العمر للعراك وتبادل السباب بلغات لا يفك طلاسمها إلا من عاش في الحي وتشرب من ثقافته العشوائية المتمددة ويتخذ هؤلاء من أسفل الجسر نقطة انطلاق للزحف إلى محطة المحروقات القريبة.. وبعد مغيب الشمس بقليل يخرج المخمورون والمتعاطون من مخابئهم ليبثوا الفوضى بين السكان الآمنين!.
أشار أحد السكان إلى حارة في قلب السبيل وهمس قائلاً: إنها "الشواعرة" حيث يتخذها سماسرة السموم ملاذاً آمناً ونقطة ارتكاز ويفصل الشواعرة عن رصيفتها الباطنية أمتار قليلة.
تجاذب الحديث مع سمسار سموم، محفوف بالمخاطر والعواقب الوخيمة إلا ان تشجيع أهالي الحي وإيمانهم العميق بدور الصحافة في كشف مواقع الخلل دفعت محرر "عكاظ" الى اقتحام الخطر وخوض التجربة في فتح حوار مع سمسار مخدرات نصحني أحد المرافقين بالوقوف عند نقطة معينة دون التوغل إلى العمق.
وبعد ثلث ساعة لاح شبح بين الأزقة.. أقترب أكثر وأكثر، هو شاب في مقتبل العمر، أطلق للسانه العنان بكلمات غير مفهومة.. ثم حياني بإبتسامة ظاهرة..
-منقول من جريدة عكاظ العدد 2449 تاريخ23-2- 1429ه.. تم نقلة للمعلومة والاستفادة تحياتي للجميع - اختكم وفيه